من هتاف “حرية… الشعب السوري واحد” إلى زمن التعددية السياسية والحرية للجميع — حان وقت التنفيذ
بعد سنواتٍ طويلة من الحرب التي عصفت بسوريا، وتسبّبت بدمارٍ عميقٍ على المستويات الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يقف المجتمع السوري اليوم أمام مسؤوليةٍ لإعادة بناء ذاته. فقد رسّخ نظام الحكم طوال عقودٍ من الاستبداد حالةً من الجهل السياسي والجمود المجتمعي، ما أدّى إلى غيابٍ شبه كاملٍ لتنظيم الحياة السياسية والمدنية تحت مظلّةِ أحزابٍ وجمعياتٍ وطنيةٍ حقيقية تعمل ضمن إطارٍ دستوريٍّ جامعٍ يضمن حقوق جميع المواطنين على أساس الهوية الوطنية لا سواها. إنّ اللحظة الراهنة تمثّل فرصةً استثنائيةً لإطلاق مسارٍ جديد يقوم على بناء حياةٍ حزبيةٍ ومجتمعيةٍ مدنيةٍ منظّمة، تستند إلى قوانين واضحة لإدارة الأحزاب والجمعيات، وتستمدّ قوتها من دعمٍ دستوريٍّ وحكوميٍّ يُعزّز قيم الحرية والديمقراطية والتعددية، ويُرسّخ الانتماء للهوية السورية الجامعة، بعيدًا عن النزعات القومية والطائفية التي فرّقت أبناء الوطن الواحد.
قبل استلام حزب البعث للسلطة عام 1963، عرفت سوريا حياةً حزبيةً نشطة وتعدديةً سياسيةً حقيقية شكّلت جزءًا من هوية المجتمع السوري. فقد وُجدت أحزاب راسخة مثل الحزب الوطني في دمشق، وحزب الشعب في حلب، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والحزب الشيوعي السوري، إلى جانب حزب البعث العربي الاشتراكي في بداياته الأولى. وشهدت تلك المرحلة تنافسًا سياسيًا واسعًا بين شخصيات بارزة مثل شكري القوتلي، خالد العظم، ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، حيث كانت الانتخابات النيابية تُعبّر عن حيوية سياسية وتنوّع فكري قلّ نظيره في المنطقة.
وأثبتت تجارب الدول التي مرّت بحروب وصراعات مسلحة دامية، كالبوسنة والهرسك وألمانيا، أنَّه لا مفرّ من تنظيم حياة الشعب ضمن أحزاب وجمعيات مدنية تُعبّر عن التعددية السياسية والوطنية، وتُعيد نسيج المجتمع والشعب إلى الهوية الوطنية فقط، والانتقال من حالة الصراع المسلّح والطائفي إلى منافسةٍ سياسيةٍ يضمنها القانون.
إن تنظيم الشعب السوري ضمن أحزاب سياسية وجمعيات مدنية، بعيدًا عن الطائفية والقومية والعرقية، ليس رفاهية للشعوب، بل أحد أهم المطالب المشروعة التي لا مفرّ منها لضمان تنظيم الجماهير وفق أسس قانونية وسياسية واجتماعية تحميها من الصراعات الطائفية. ويكفل هذا الحق المشروع إطار دستوري واضح يضمن التعددية السياسية والحرية في تشكيل الأحزاب والجمعيات المدنية ضمن ضوابط تمنع احتكار السلطة والمناصب، ليصبح الدستور حاميًا للتنوع السياسي والمدني، ومعزّزًا للثقة بين الشعب والدولة، وممكّنًا لمشاركته السياسية الفعلية ضمن هوية وطنية جامعة.
إنّ هذه الفرصة التاريخية أمام السوريين قد لا تتكرّر لإعادة بناء وطنهم ضمن مجتمع مدني منظم، وتنظيم الحياة السياسية ضمن أحزاب وجمعيات مدنية، فهي ليست خيارًا، بل ضرورة. فقد قامت الثورة السورية لأجل هذا الحق، والآن حان وقت تنفيذه لكل أبنائها الذين ضحّوا من أجله ومن أجل الوطن، ليكونوا مواطنين سوريين فقط، لا غير.
