سوريا الجديدة ما بين الإصلاح والهدم
إعادة هيكلة أم صفقة جديدة
تعلمت من صيانة الأجهزة أن بناء هياكل جديدة أسهل من إصلاح القديمة، لكن الإصلاح يكسبك خبرة ومهارة لا تُضاهى. الهدم قد يكون سريعًا، لكنه يمحو الدروس، بينما الإصلاح يصقل القدرات. تنطبق هذه الحكمة على الاقتصادات المتعثرة، وجهود الدول الإقليمية لتخفيف تأثير العقوبات على سوريا، مع سيناريوهات تعافٍ محتملة بحلول 2030. وهنا محاولة النظر من خلال تجربتين: تجربة الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وتجربة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت.
في الثمانينيات، ورث غورباتشوف اقتصادًا سوفييتيًا متدهورًا. أطلق “البيريسترويكا” لإعادة الهيكلة، فسمح قانون التعاونيات (1988) بالملكية الخاصة، وفتح الاستثمار الأجنبي بنسبة 49% (1987). لكن قيود الأسعار وتدهور الروبل أديا إلى أزمات عرض. رافقتها “الغلاسنوست” لزيادة الشفافية، لكنها أثارت اضطرابات، مما ساهم في انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. فشلت إصلاحات غورباتشوف لنقص التوازن بين الانفتاح والاستقرار.
على النقيض، واجه روزفلت الركود العظيم (1929-1939) بـ”الصفقة الجديدة”، وهي إصلاحات اقتصادية شاملة. شملت برامج توظيف عبر إدارة مشاريع الأشغال العامة (PWA) لبناء بنية تحتية، وقانون جلاس-ستيجال (1933) لتنظيم البنوك، وقانون الضمان الاجتماعي (1935). خفضت البطالة من 25% إلى 14% بحلول 1937، وعززت الثقة، فانتعشت أمريكا. نجح روزفلت بجمع التدخل الحكومي مع استقرار النظام الرأسمالي.
سوريا اليوم تواجه اقتصادًا مدمرًا، تفاقمه عقوبات دولية مفروضة منذ 2011. انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 64%، ويعيش 90% تحت خط الفقر، مع تضخم 40% في 2024، وتدهور الليرة بنسبة 99% (من 50 ليرة للدولار في 2011 إلى 15,000 في 2025). العقوبات، بما فيها قانون قيصر (2020)، استهدفت النفط، الطاقة، والمال، فقلصت الصادرات من 18.4 مليار دولار (2010) إلى 1.8 مليار (2021)، والواردات من 22.7 مليار إلى 6.5 مليار. أوقفت العقوبات إنتاج الأسمدة، وخفضت الأراضي المزروعة، وأعاقت استيراد الأدوية، ومنعت معاملات “سويفت”، مما صعّب استعادة 400 مليون دولار من الأصول المجمدة. إعادة الإعمار تتطلب 250-400 مليار دولار، لكن العقوبات تحد من الاستثمار الأجنبي.
دور الدول الإقليمية في تخفيف العقوبات:
• تركيا: دعمت الإدارة السورية الجديدة فورًا. زار وزير خارجيتها هاكان فيدان دمشق في ديسمبر 2024، داعيًا لرفع العقوبات. تسعى تركيا لتعزيز التجارة عبر معبر نصيب، الذي أعاد فتحه الأردن، لتنشيط الصادرات السورية. كما تقدم استثمارات في البنية التحتية، مستفيدة من خبرتها في إعادة إعمار مناطق النزاع.
• السعودية: تسعى لملء الفراغ الإيراني ودعم الإدارة الجديدة، مستفيدة من “رؤية 2030” لتعزيز الاستثمار في سوريا. في يناير 2025، دعت مع ست دول أوروبية لتخفيف عقوبات الطاقة والبنوك. تقدم السعودية تمويلًا لمشاريع إعادة إعمار، كالكهرباء والمياه، مع التركيز على استقرار الاقتصاد العربي.
• الأردن: أبرم تفاهمًا أمنيًا مع سوريا في 2025 لمكافحة تهريب المخدرات وتأمين الحدود. إعادة فتح معبر نصيب زادت التجارة، مما قد يرفع الناتج المحلي للأردن وسوريا بـ0.6 مليار دولار في 2025 و1.8 مليار في 2026. الأردن يدعم تخفيف العقوبات لتعزيز الاستقرار الإقليمي.
• قطر: تسعى للعب دور دبلوماسي واقتصادي، مع تقديم مساعدات إنسانية واستثمارات محتملة في الطاقة والزراعة، مستفيدة من علاقاتها مع الإدارة الجديدة. تدعم قطر حوارًا إقليميًا لرفع العقوبات تدريجيًا.
سيناريوهات التعافي الاقتصادي بحلول 2030:
• سيناريو التعافي الإيجابي: إذا نفذت إصلاحات جريئة (خصخصة، تحسين الحوكمة)، وخففت العقوبات جزئيًا، ودعمت دول إقليمية كتركيا والسعودية إعادة الإعمار، قد ينمو الناتج المحلي بنسبة 13% سنويًا بين 2024-2030، ليصل إلى 80% من مستوى ما قبل الحرب. لكن الناتج للفرد سيبقى نصف مستوى 2010، وسيستغرق استعادة المستوى الكلي حتى 2036 (بنمو 5% سنويًا)، وناتج الفرد حتى 2041 (بنمو 7.5%). تحقيق ناتج للفرد 5000 دولار (نصف مستوى تركيا) يتطلب نموًا طموحًا بنسبة 20% سنويًا.
• سيناريو الركود: إذا استمرت العقوبات، وضعفت الحوكمة، وقل الدعم الإقليمي، سيظل الاقتصاد راكدًا، مع فقر مستمر. عدم الاستقرار السياسي ونقص التمويل سيحد من إعادة الإعمار، وسيبقى 90% من السكان تحت خط الفقر.
• سيناريو الانهيار: إذا تجدد الصراع أو تفاقمت الانقسامات، سينخفض الناتج المحلي بنسبة 7.68% سنويًا حتى 2030، مما يعمق الأزمة الإنسانية ويزيد الضغط على دول الجوار كلبنان والأردن، مع ارتفاع التجارة غير المشروعة.
إصلاحات سوريا 2025 (خصخصة، زيادة رواتب 400%) تشبه “البيريسترويكا” في طموحها، لكنها تواجه مخاطر الفوضى كما حدث مع غورباتشوف، خاصة إذا لم تخفف العقوبات. دعم الدول الإقليمية يشبه دور التحالفات في نجاح روزفلت، لكن سوريا تحتاج إلى استقرار سياسي واستثمارات ضخمة. رفع العقوبات على “سويفت” والبنوك، كما دعا الاتحاد الأوروبي في فبراير 2025، قد يعزز التجارة، لكن النجاح يعتمد على تخطيط دقيق ووساطة إقليمية.
الإصلاح الاقتصادي صعب لكنه يبني قدرات مستدامة. فشل غورباتشوف يُحذر من التسرع، ونجاح روزفلت يُبرز أهمية التوازن. الدول الإقليمية (تركيا، السعودية، الأردن، قطر) تلعب دورًا حاسمًا في تخفيف العقوبات ودعم التعافي السوري. سيناريو التعافي الإيجابي ممكن بحلول 2030 إذا خففت العقوبات ونفذت إصلاحات مدعومة إقليميًا، لكن استمرار العقوبات أو الصراع قد يؤدي إلى ركود أو انهيار.