في خضم تحولاتٍ جيوسياسية متسارعةٍ في الشرق الأوسط، تبدو الجمهورية العربية السورية بوصفها “قطعةً مفقودةً” في معادلات السلام الإقليمي، إذ يُنظر إليها عموماً اليوم ليس كمجرد ملفّ بل كلاعب محوري قادر على التأثير وربما التشكيل في مستقبل المنطقة.
وهذه التغيّرات الخارجية لا بد أن تترتب عليها تحوّلاتٌ داخليةٌ عميقة، إذ إن المشاركة السورية في مفاوضات السلام الإقليمي تعني أكثر من مجرد توقيع اتفاقيات، بل تستدعي إعادة بناء الدولة وإعادة تأسيس العقد الاجتماعي وإعادة توظيف مؤسسات الحكم والدولة.
سوريا كلاعب إقليمي فاعل
إن ما يجري في سوريا اليوم يعكس تحوّلاً في موقعها الدولي والإقليمي. ففي زيارةٍ هي الأولى من نوعها، التقى الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في 15 أكتوبر 2025، حيث أكّدا على إعادة ضبط العلاقات بين البلدين بعد أعوامٍ من الصراع والتقلب.
من جهةٍ أخرى أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية أنّها تتابع اتفاقاً بين الحكومة السورية وقوات سورية الديمقراطية (قسد) حول الدمج في المؤسسات الوطنية باعتباره خطوة إيجابية نحو حل تفاوضي شامل في شمال شرق البلاد.
كما أن اجتماع وزراء خارجيّة دول عربية وإقليمية يوم 17 يوليو 2025 أكّد دعمهم لأمن سوريا واستقرارها وسيادتها كشرط أساسي للسلام الإقليمي.
هذه المعطيات ترجِع سوريا من هامش الصراع إلى مركزٍ يمكن من خلاله أن تستعيد دورها كجسر بين القوى الإقليمية وليس فقط ساحة للصراع.
شروط الانخراط السوري في عملية السلام
1. سيادة القرار والمؤسسات: لن يكون بمقدور دمشق أن تشارك بفعالية في ترتيبات السلام ما لم تتمكّن من استعادة السيطرة الفعلية على مؤسسات الدولة وضمان أن أي مفاوضات خارجية لا تُفرّط في قرارها الوطني.
فقد حمّلت دولٌ أوروبية القيادة السورية مسؤولية بناء دولة تستند إلى المصالحة وسيادة القانون، والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان ضمن الانتقال السياسي.
2. شراكة داخلية جامعة: تضمّ مختلف المكوّنات عرقيّاً وطائفياً وسياسياً في عملية التفاوض وإعادة البناء.
فالاتفاق الذي وقع في 10 مارس 2025 مع قسد مثلاً يُعدّ مدخلاً لدمج أبناء الشمال الشرقي في الدولة السورية.
3. رؤية إصلاحية واضحة: تشمل إصلاحاً أمنياً وإدارياً عبر دمج القوات المسلحة ضمن قيادة الدولة، وضمان حقوق الأقلّيات، وتأهيل المجتمع المدني.
وكما قال أحد مبعوثي الأمم المتحدة: «سوريا عند مفترق طرق إما أن تعود إلى العنف أو تبدأ الانتقال إلى السلام».
4. تزامن خارجي داخلي: إن الاتفاقات الإقليمية ضرورية، لكن شرط نجاحها أن تُترجم داخلياً عبر إعادة بناء البنية التحتية وإعادة إدماج المهجّرين وتفعيل الدور الاقتصادي بما يعزز مصداقية الدولة نحو الداخل والخارج.
التحديات الراهنة
لا تزال سوريا تواجه تدخلات خارجية متعددة الأوجه، إذ حذّرت دول الاتحاد الأوروبي بأن أي وجود أجنبي أو تصرف منفرد يُعدّ تهديداً لاستقرار البلاد وسيادتها.
انعدام الثقة داخلياً بين مكوّنات المجتمع وضعف مؤسسات الدولة التي أمضت سنوات الصراع وتفكّك البنية الوطنية.
حاجة التمويل الدولي والإقليمي لإعادة الإعمار، والذي غالباً ما يُرفق بشروط سياسية وإصلاحية.
الفرص
إعادة إدماج سوريا في المحافل الدولية واستعادة دورها السياسي يُمكن أن يفتح أبواب الاستثمار والإعمار، كما لُوحِظ في تصريحات وزير المالية السعودي بأن «استثمارات عدة في سوريا تُنهى حالياً».
إمكانية أن تصبح سوريا نموذجاً للكيفية التي يُمكن فيها للدول التي خرجت من الصراع أن تتحوّل إلى مسارات استقرار، إذا ما نُفّذت الإصلاحات المطلوبة.
تحوّل دور دمشق من ساحة صراع إلى مركز وساطة يقوّي موقعها الإقليمي ويُحدّ من خيارات القوى الخارجية.
التحولات الداخلية المحتملة
ضمن إعادة تعريف دور الدولة فإن سوريا ستكون مطالَبة بإعادة تأكيد أن «السلاح بيدها وحدها»، ومن ثمّ دمج أو تفكيك الميليشيات، وضمان أن السلطة المدنية هي الضامنة للفوضى والقانون على حدّ سواء.
الحوار والمصالحة الوطنية عن طريق بناء مؤسسات تُمثّل الجميع وإطلاق حوار شامل حول الدستور والهوية الوطنية، وتمثيل المرأة والشباب والمكونات العرقية والطائفية، كما دعت لذلك مجموعة الدول المؤيدة لعملية انتقاليّة بقيادة سورية.
اقتصادٌ منفتح وتحقيق لمنافع السلام يشمل جذب الاستثمار وإعادة إعمار البنى التحتية وتحسين الخدمات، بما يعزز شرعية الدولة الداخلية ويجسّد تسوية السلام إلى واقع ملموس.
تحوّل خطابيّ ورؤية استراتيجية من دولة حصار وصراع إلى دولة انفتاح وتنمية، ما يتطلب تغييرات في البُنى الأمنية والإعلامية والتعليمية، وتوجيه الطاقات نحو البناء وليس الصراع.
ماذا يعني ذلك للسلام الإقليمي؟
إشراك سوريا الفاعل في أي تسوية إقليمية يُغيّر المعادلات، فدمشق يمكن أن تلعب دور حلقة وصل بين تركيا والعرب، وبين إيران والغرب، وبين لبنان وفلسطين، وإذا ما نجحت في تحقيق استقرار داخلي فإنها ستبدو أكثر جاذبية كشريك سلام ودولة جارة.
رغبة الدول العربية في إعادة دمج سوريا ضمن مقارها السياسية والاقتصادية كما يُستفاد من بياناتها تُعد مؤشّراً على أن مرحلة «العزلة السورية» في طريقها للانتهاء.
لكن الأمر ليس مضموناً لأن أي فشل في التغيير أو استمرار التدخلات الخارجية أو عودة الفوضى الأمنية يجعل من سوريا مرتعاً للصراعات وليس منصة للسلام
