تحولات القوى الإقليمية في الشرق الأوسط
مصطفى عبد الوهاب العيسى
بدت احتفالات النصر في طهران وتل أبيب احتفالات جوفاء ، وهي كاذبة بالنسبة للمتابع بعين الحياد والمراقبة لما جرى خلال حرب الإثني عشر يوماً ، أو خلال الجولات السابقة بعد السابع من أكتوبر ، وأرى أن تلك المواجهات كانت سجالاً متوازناً – إلى حد ما – إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفارق الكبير في موازين القوى العسكرية ، فضلاً عن دعم عسكري واقتصادي وتدخل مباشر لصالح إسرائيل من قبل حلفائها في الوقت الذي اقتصر فيه تدخل حلفاء إيران ودعمهم على المستويين السياسي والإعلامي .
من وجهة نظري ، كان استمرار حرب الإثني عشر يوماً سيؤدي لا محالة إلى انتحار لإيران في صراعها ، وهو ما كان سيشكل في المقابل إفلاساً شاملاً لإسرائيل على مختلف الأصعدة ، وقد يكون هذا العامل تحديداً هو أحد الأسباب الرئيسية مع أسباب أخرى كمضيق هرمز وحركة الملاحة البحرية والجوية ، وضغوط كبرى الاقتصادات العالمية لاستمرار وقف إطلاق النار خلال المرحلة المقبلة ، والذي سيؤدي خرقه عدة مرات إلى احتمال اندلاع حرب استنزاف في الأشهر القادمة ، وهي الحرب التي أرى أن حظوظ إيران فيها ربما تكون أكبر بالنظر إلى تاريخها في تحمل الضربات ، واعتمادها سياسات النفس الطويل ، إضافة إلى الصبر الذي تحول إلى منهج راسخ وجزء لا يتجزأ من بنية نظامها الحاكم .
لم تكن إيران في المقام الأول ، وإسرائيل في المقام الثاني مستعدتين لخوض الحرب عسكرياً أو اقتصادياً ، وربما كانت الظروف الإقليمية والدولية وعلى وجه الخصوص مفاوضات البرنامج النووي الإيراني هي ما دفعهما للمواجهة ، ولأن الحرب كانت قصيرة نسبياً فقد استطاعت إسرائيل الاستفادة من تفوقها العسكري والتقني ، بينما لم تكن لإيران فرصة توظيف عناصر تفوقها الجغرافي والبشري ، وهما عاملان سيكون لهما أثر بالغ إذا ما اندلعت حرب طويلة الأمد مستقبلاً .
وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدها الطرفان فإن النصر الذي احتفل به كل منهما قد يُفهم على أنه نصر بعدم تمكين العدو من تحقيق أهدافه كاملة ، أو لأن كل طرف ما زال يملك فرصة العودة إلى التسلح وإعادة البناء والتجهيز ، كما قد يُفسَّر النصر من منظور داخلي بارتفاع مؤشرات الثقة الشعبية التي أظهرتها استطلاعات الرأي في الشارعين الإيراني والإسرائيلي ، وهذا طبعاً إلى جانب تجنب البلدين الوقوع في حالة الفوضى التي كان من شأنها أن تضرب المنطقة وتنعكس عليهما مباشرة .
أما من وجهة نظري فإن النصر الحقيقي يُقاس بما ستُفضي إليه المفاوضات المقبلة بين الولايات المتحدة وإيران ، وخاصة فيما يتعلق بمستقبل البرنامج النووي الإيراني بعيداً عما تم تدميره أو الإضرار به من منشآت نووية خلال الحرب .
وبعيداً عن كافة التكهنات والتحليلات المتداولة ، أعتقد أن وقف الحرب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصورة الشرق الأوسط الجديد التي تسعى إسرائيل لرسمها بشكل معين ومغاير لرؤية إيران لهذه الصورة وكيفية رسمها ، ولهذا كان استمرار الحرب من وجهة نظري سيؤدي بوضوح إلى خروج قوتين إقليميتين من معادلة التأثير ، وخسارتهما لأجزاء حيوية من منظومة قوتهما ، وهذا ما كان من شأنه – نظرياً – أن يمنح تركيا فرصة لزيادة تعزيز مكانتها الإقليمية ، ويُسهم في صعود أسهمها كقوة مؤثرة بشكل أكبر في ملفات المنطقة ، وهو أمر ربما لم تقبل به أو تتوافق عليه سياسات القوى الدولية التي يبقى مطلوباً لديها ، ومن صالحها أحياناً توازن القوى الإقليمية .
خلاصة القول : لم تتمكن عقيدة الجدار الحديدي التي رسخها فلاديمير جابوتنسكي في أوائل القرن العشرين من تحقيق أهداف حكومة نتنياهو في القرن الحادي والعشرين ، وكذلك لم تتمكن عقيدة الهدوء والنفس الطويل للمرشد الإيراني علي خامنئي من تجنيب إيران تلك الضربات القاسية التي طالت برنامجها النووي الذي تحملت في سبيله أكثر من عقدين من الحصار والعقوبات المباشرة ، وتكبدت بسببه خسائر بمئات المليارات .
هذه الحرب لم تُسفر حتى الآن سوى عن تحولات جذرية في سياسات وحسابات القوى الإقليمية ، وهي تحولات نملك الحق في قراءتها والتنبؤ بها دون أن نزعم حتمية وقوعها .
في حال لم تنشب حرب استنزاف ، ولم يتجدد الصراع قريباً ، فأعتقد أن المنطقة ستتجه نحو حالة من الهدوء النسبي تمتد لعدة سنوات ، ويتأجل حسم العديد من الملفات ، وعلى رأسها ما يمكن تسميته ” سايكس بيكو الجديدة ” وإعادة رسم خارطة المنطقة .
أما على صعيد القوتين الإقليميتين فتقديري أن إسرائيل ستتجه مُكرهة نحو التواضع ، والقبول بشروط بعض الدول التي قد تنضم مستقبلاً إلى الاتفاقيات الإبراهيمية سواء فاز الليكود أو خسر في الانتخابات القادمة ، وفي المقابل أُرجِّح أن تعمل إيران على نهوض اقتصادي تدريجي في السنوات القادمة إلى جانب الشروع في إصلاحات سياسية داخلية من شأنها معالجة عدد من الملفات مثل قضايا المرأة والكورد والأحواز وغيرها .
بطبيعة الحال سيظل كل ذلك رهيناً بعدم تصاعد التوترات على الساحة الدولية ، ولا سيما إذا ما تفاقم الصراع المحتمل بين الصين من جهة وأمريكا من جهة أخرى ، وهو ما قد يعيد خلط الأوراق مجدداً .