بين نيران الفتنة وحلم الدولة
لم تكن سوريا في يوم من الأيام متجانسة طائفيًا بالشكل النظري الذي أراد البعض الترويج له، لكنها كانت – رغم كل شيء – نسيجًا اجتماعيًا متماسكًا تشكل عبر قرون من التفاعل، والتسامح، والتضامن في وجه الغزاة والأزمات.
واليوم وبعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام والانهيار، ومع بزوغ ملامح دولة سورية جديدة، تعود المحاولات الخبيثة لضرب هذا النسيج الوطني، من بوابة الطائفية، ومن قلب الجنوب السوري، من السويداء.
السويداء ليست معزولة عن الوطن
ما جرى في السويداء في الأسابيع الأخيرة من توترات أمنية واشتباكات وحملات تحريض، لم يكن حدثًا عابرًا أو محليًا، بل كان نتيجة تراكمات مقصودة، هدفها فصل المحافظة وأهلها عن محيطهم الوطني، والتشكيك في نوايا الدولة، وإغراء البعض بخيارات انعزالية أو فيدرالية لا تشبه تاريخ المنطقة ولا ثقافة أهلها.
من حق أي سوري أن يطالب بحقوقه، أن يحتج، أن ينتقد أداء الدولة أو يطالب بتصحيحه، لكن من الخطأ بل من الجريمة أن تُستَغل هذه الحقوق لإشعال فتيل فتنة طائفية، أو لتكريس خطاب “نحن وهم”، أو تقديم طائفة بأكملها كأنها كيان منفصل عن الوطن.
من يُشعل النار؟ ولماذا الآن؟
حين نربط ما جرى في السويداء مع تحركات مشبوهة في بعض مناطق البادية ودير الزور، ومع تفجيرات دينية مثل حادثة كنيسة مار إلياس في دمشق، نجد أن هناك نمطًا واضحًا لمحاولات استهداف وحدة المجتمع السوري.
الهدف ليس فقط تقويض الأمن، بل إعادة إنتاج الفوضى الطائفية، وإرسال رسالة مفادها أن “سوريا لا يمكن أن تعيش إلا منقسمة، متناحرة، خائفة من نفسها”.
وليس من الغريب أن هذه الأحداث تتزامن مع تحركات دبلوماسية مهمة للحكومة السورية الجديدة، في علاقاتها مع الجوار العربي والخارجي، وكأن هناك من يريد إجهاض هذا المسار من الداخل، عبر تفخيخ البيت السوري نفسه.
رسالتي إلى المسؤولين
إن الحكومة السورية، بكل أجهزتها ومؤسساتها، مدعوة اليوم إلى عدم التعامل مع أحداث السويداء بمنطق أمني ضيق فقط، بل بفهم سياسي واجتماعي أوسع، فالمعالجة الناجحة لا تكون بالرصاص بل بالحوار، ولا بالقوة بل بالعدالة والانفتاح.
ولتصحيح هذا المسار يجب علينا ما يلي:
مصارحة وطنية مع أهالي السويداء، تشرح الوضع، وتقدم الضمانات.
فتح قنوات تواصل مباشرة مع الوجهاء والمثقفين والفعاليات المحلية.
محاسبة كل من حرض أو تورط في مشاريع تقسيمية، دون تعميم الاتهام على الطائفة.
التركيز على إعادة بناء الثقة، لا ترسيخ الحذر المتبادل.
رسالتي إلى الشعب السوري: لا تسقطوا في الفخ
إلى كل السوريين، من كل الطوائف والمذاهب والانتماءات: من يحاول زرع الفتنة بيننا، لا يريد الخير لأحد منّا.
من يحاول أن يقدم لكم الخوف على أنه حماية، والعزلة على أنها استقلال، والشتات على أنه حل، فهو عدوكم وعدو الوطن.
نحن بحاجة لأن نغلب صوت العقل على الانفعال، ونتمسك بأن سوريا التي نحلم بها، لا يمكن أن تُبنى إلا بجميع أبنائها، بدون إقصاء أو انتقام أو كراهية.
سوريا القادمة تستحق التضحية بالصراعات من أجل السلام وإن بناء دولة حقيقية لا يبدأ من الدستور فقط، بل من الثقافة الاجتماعية، من ثقتنا ببعضنا، ومن رفضنا العودة إلى لغة الطائفة والسلاح.
علينا أن نغلب لغة الشراكة على الحذر، ولغة الدولة على الفوضى، لأن التاريخ لن يرحم من كان شريكًا في تضييع الفرصة الأخيرة