الوطن بين الأنا والآخر
هناك صنفان من البشر:
صنف يفكر بنفسه، بأفراحه وأحزانه، برغباته واحتياجاته، بنجاته وخلاصه، فالأولوية عنده هي الأنا ولو على حساب الآخر، فإذا تعارضت مصلحته الشخصية مع المصلحة العامة يقدّم مصلحته عليها ظنًّا منه أنه يُحقّق مصلحة نفسه وأنه يهتم بها ويحقق لها سعادتها.
والصنف الآخر يهتم بالآخرين، بأفراحهم وأحزانهم، برغباتهم واحتياجاتهم، بنجاتهم وخلاصهم، فالأولوية عنده المصلحة العامة، ويقدّمها على مصلحته الخاصة، ويرى في ذلك سعادته في الدنيا والآخرة.
نحن إذًا أمام (أَثَرَةٍ) و(إيثار)، والغالب في مجتمعنا وواقعنا صاحب الأَثَرة الذي لسان حاله يقول: (أنا ومن بعدي الطّوفان)، و(ألف أم تبكي ولا أمي تبكي)، وأمام هذا الحال نسأل: بأيّ صنف يُبنى الوطنُ، ويتحقق استقرار المجتمع؟
إن الصنف الأول لا يبني وطنًا، بل خراب الوطن على يده، ويوصف بأنه أناني لا يهمه وجع الآخرين، وإنما تهمّه نفسه فحسب، ويوصف بأنه أحمق؛ لأنه يتوهم أنه يحقق مصلحته وأنه سينجو ولو هلك الآخرون، وفي ذلك حماقة كبيرة، إذ لا يمكن له أن ينجو وهو يركب سفينة المجتمع التي إذا غرقت غرق كل من عليها، وهلك كل من فيها، فلا نجاة لفرد إلا بنجاة المجتمع كله.
وإن اضطراب المجتمع الذي نعاينه اليوم سببه هذا الصنف الأناني الأحمق الذي لا يكترث بشؤون الجماعة، ولا يهمه أمر البلد، ولا يبالي بحال من هم في كَبَد، سبَبُه (طَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ) [آل عمران: 154]،سبَبُه جماعةٌ يأخذون حقهم وزيادة، ولا يهمّهم أن يحصل الناس على حقوقهم، بل يساهمون في أكل حقوق الناس، كهؤلاء المطفّفين (ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ) [المطففين: 2-3].
إن الشخص الذي تحرّكه نفسُه وشهواته ولا يكترث للآخرين، شخص تشقى به البلاد والعباد؛ لأنه لا يُقدّم شيئًا لمن حوله، وإنما يقدّم لنفسه فحسب، ومع الأسف صور ذلك كثيرة في واقعنا المعيش؛ فكم من تاجر يسعى لزيادة رأس ماله ولو على حساب شقاء الفقراء، وكم من مسؤول يستغل منصبه لزيادة رأس ماله وآخرُ همّه إيجاد حل لمشكلات المجتمع الأمنية والاقتصادية والتعليمية، وكم من شيخ يُفَصِّل الدّينَ على قياس مصلحته الشخصية، ويُصدر الفتاوى التي تحقق له مكاسب ذاتية ولو كان في تفصيله وفتاويه ضرر على المجتمع وفساد عريض، كهؤلاء الذين يأكلون الربا ويسمونها بغير اسمها، والذين يأخذون الرشوة على أنها هدية!
ما هؤلاء بناة وطن، وإنما بُناته رجال همهم الآخر، رجال يعرفون حق العباد ويهمهم أمر البلاد ، رجال اهتموا بإخوانهم وهمومهم، وها هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وتحمّلوا في سبيل المصلحة العامة الحاجة والخطر، لكي ينعم الناس بالخير والحياة الطيبة، فبنوا وطنًا قائمًا على الإيثار بين المهاجرين والأنصار.
فالوطن لا يبنى إلا على الإيثار بعيدًا عن الأهواء التي تخرّب الأوطان وتفسد المجتمعات، والوطن لا يبنيه إلا الكبار الذين وصفهم الله تعالى فقال: (يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُون) [الحشر: 9] .
إن الإيثار أسلوب العظماء وسبيل الشرفاء ولغة المحبين لمن حولهم، الصادقين مع ربهم، وأما أهل الأثَرَة والاستئثار، فهم يَدَّعون حبّ الوطن، وإنما يحبون أنفسهم، ويتظاهرون بالوطنية، ولا وطن لهم إلا غرائزهم.
ولأن الأثرة شرٌّ وفساد عريض، لا بد أن نعالج هذه الصفة المذمومة منذ الطفولة، لأن حبّ النفس غريزهٌ أصيلة في بني آدم، ولا يمكن تجاهلها، وليست شرًّا محضًا إذا وُجِّهت منذ الطفولة، وضُبطت بضوابط تجعلها متحقِّقة من خلال المصلحة العامة لا من خلال تجاوزها والإضرار بها.
وأختم بالقول: إذا أردنا أن نبني وطنًا، وأن نحقق استقرار المجتمع، فعلينا أن نفكر في الآخر قبل أن نفكر بأنفسنا، وأن نعمل لأجل من حولنا قبل أن نعمل لأجل أنفسنا، وأن نسعى لتحقيق المصلحة العامة قبل مصلحتنا الخاصة، وأن نجتهد في إسعاد من حولنا قبل أن نُسعد أنفسنا، وأن نهتم لنجاة من حولنا قبل أن نفكر بنجاتنا، وأن نعلم أن نجاة الآخرين نجاة لنا، وهلاكهم هلاك لنا.