الوطنية
هذه الكلمة التي تعتبر من السهل الممتنع فهي سهلة لكنها المستعصية على التطبيق لاسيما في الواقع الذي لم يعش ظروف طبيعية في شكل الدولة الحديثة كظروفنا.
وهي تقريباً وريثة مفردة الأمة وهي حالة رمزية معنوية من كونها واقعية حسية.
فليست الوطنية سوى عصبية الدولة التي حلّت محل الأخوة المؤسسة لعصبية القبيلة أو الطائفة، فالدولة هي التي تشكل مركز تنظيم المجتمع الحديث، وليس منطق القبيلة أو منطق حالة جهوية ما، والوطنية هي التي تعيد تجميع الأفراد المنخلعين عن عصبياتهم في إطار جديد وعلى أسس جديدة وبحسب مبادئ ومن خلال مؤسسات من نمط جديد، تحقق الانسجام والتعاون والتضامن وتقدم لكل فرد وجماعة فرص التقدم والتفتح الشخصي وتجمع بين الوحدة الاجتماعية والحرية الفردية.
وإذا افتقرت الدولة إلى السياسة وقيمها الحديثة من حرية وحكم القانون والسيادة المنبثقة من الجمهور، وليست قاهرة للجمهور كالدولة العسكرية أو الأمنية التي تستمد قوتها من قدرتها على الإخضاع والإكراه، فلن تتمكن من بناء الوطنية، أي جماعة سياسية متسقة ومتفاعلة ومتضامنة داخل وطن واحد، لأنها تفتقر إلى الشروط المكونة لها، وهي ليست سوى قائمة الحقوق التي أصبحنا نسميها اليوم إنسانية، أو حقوق إنسان ومن المستحيل أن تنتج وعياً أي أيدلوجيا تمكن كل فرد من إعادة إنتاج ذاته كعضو في جماعة سياسية واحدة متفاعلة ومتضامنة.
في هذه الحالة سوف يستمر الأفراد المقطوعون من جذورهم والمفتقرون إلى حاضنة سياسية حقيقية تجمعهم، إلى الذهاب في التعلق بما تبقى من وهم القبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة، وهذا الحاصل اليوم في واقعنا السوري، وأصبح الرهان على ما تمثله هذه العصبيات والانتماءات من روابط عاطفية للحفاظ على الحد الأدنى من حياة الجماعة وحماية أفرادها ووظائفها أمام دولة تحولت إلى آلة منفصلة عنهم وتتحكم فيهم من فوق وبالوسائل العنفية، أي إلى آلة قهر لا منبع لقيم التضامن والتواصل، والأمن، والكرامة، والحرية.
بعبارة أخرى، ما يشكل الدولة- الأمة الحديثة- اليوم ليس تجاوز الأفراد لعصائبهم القديمة المتعددة، وإنما إعادة تشبيكهم من خلال رابطة جديدة هي الوطنية.
ولذلك من الطبيعي بمكان بقاء الروابط والتعريف بالانتماء إلى قبيلة وعائلة وطائفة، ولكن يبقى ذلك في إطار التعريف الاجتماعي وليس في التفكير والسلوك السياسي الذي ينبغي أن تعزز المنطق الوطني وليس ما دون وطني من انتماءات أخرى.
فتلك الانتماءات هي ولدت معنا وبالغالب لسنا سبب في تحديدها، فلا أحد اختار المنطقة والعرق والقبيلة التي وجد فيها ليتعصب لها.!
فنحن في وطنن واحد لم نختار أشقاءنا في الوطن لكننا نفكر كعقلاء كيف سنعيش معاً.
وشرط الوطنية ليس وحدة اللغة والثقافة والجغرافيا، بل ببساطة وحدة الحقوق والواجبات التي تعبر عنها الوثيقة الدستورية، والتي تجسد الالتقاء حول مبادئ عقلية أي واعية لذاتها وقابلة للنقاش والتعديل والتغيير من المواطنين أنفسهم.
وهي ليست رابطة بديلة للعصبية القديمة، بل رابطة إضافية جديدة شاملة، حديثة بالمعنى الحرفي للكلمة، فيما تقدمه من وسائل تمثل الفرد لذاته وحقوقه وواجباته ومكانته في نظام السلطة والمجتمع وفي تعامله مع الفرد الآخر.
وهي ثمرة السياسة العقلية أي نشوء سياسة قائمة على التواضع الواعي للأفراد على أسس وقواعد للعيش المشترك وعلى غاياته الرئيسية وفي مقدمها الحرية، مثلما أن رابط العصبية، وليدة العاطفة، والحمية المتوارثة، والانفعال.
فالدولة الحديثة التي لا تستطيع أو لا تريد تطبيق هذا البرنامج وما يستدعيه من اعتراف بالذاتية والسيادة الشخصية والحق في المشاركة في القرارات العمومية لا يمكن أن تشكل حالة وطنية، ولن تستطيع أن تتغلب على الحنين الدائم إلى الجماعات العضوية، تلبية لحاجة إنسانية اجتماعية.
ولكنها يمكن أن تتحول هي ذاتها إلى دولة عصابة تحتكر الحقوق والسيادة لنفسها،
وتحول الأفراد المنفصلين عن عصائبهم إلى أقنان (أرقاء) يعملون لحسابها.
ولا يمكن للمواطنة أن تتشكل من دون حقوق وواجبات أي من دون دولة قانون أيضاً. ولا يمكن الطغيان الحديث أن يقوم ويستقر إلا بمنع الأفراد المنفكين عن جماعاتهم من إعادة تشكيل أنفسهم في صورة جماعة سياسية والمطالبة بحقوقهم وحرياتهم، وهذا التحدي الذي نحن بحاجته من تعزيز الخطاب الوطني قول وسلوك مقابل الطغيان.
ولا يملك الطغيان وسيلة لتحقيق ذلك سوى استخدام التقنيات نفسها التي استخدمتها السلطات الاستعمارية والاستثمار في التمايزات الطائفية والاثنية والجهوية وتحويلها إلى انقسامات وأسباب للنزاع الأهلي والتناحر الدائم، وهذا ينبغي أن يكون هدفنا للتغلب عليه والخلاص منه فهي أداة الطغيان والاستعمار
وفي هذا السياق ولدت في المشرق أيضاً مشكلة الأقليات التي لاتزال تشكل جرحاً عميقاً يحول دون الارتقاء بوعي الأفراد إلى الرابطة السياسية القانونية والأخلاقية.
من هنا اعتقد التشبث بوهم تماسك العصبية التقليدية، والاعتقاد بوراثتها الأتوماتيكية عن الماضي والأجداد واستخدامها في تحليل أزمة الدولة والوطنيات الفقيرة والسطحية التي نشأت على هامشها في معظم الأقطار العربية، حالاً بين الباحثين ورؤية الواقع العيني، وتحليل تناقضاته ومفارقاته أيضا وأين تعمل السياسة والعقل وأين يستمر فعل العصبية والعاطفة. وأدى ذلك إلى طمس المشكلات التي يطرحها هذا الواقع الاجتماعي المتغير والأزمات التي خرجت من تركة استعمار واستبداد قام على الاكراه ضد الجميع، بل واستثمار هذه الأزمات وتركها دون حلول لإنتاج مواطنة حقيقية قائمة على التواضع الواعي لمصلحة الجميع الذي تربطهم هذه الرابطة وتقديمها على الروابط الأخرى.
فنحن أحوج ما نكون لحراك وطني سوري، ببعده الثقافي والسياسي لتعزيز مفهوم وثرائها قول وعمل وطني.
د. زكريا ملاحفجي