لم يكن تصريح أحد شيوخ وأئمة المساجد في كردستان العراق (هالو رشيد) مفاجئاً بالنسبة لي حين وصف السلفية بأنها أشبه بمذهب سياسي أو حزب سياسي ، وهو الرجل الذي يُنظر إليه من قبل غالبية المجتمع المحيط به على أنه شيخ سلفي ، بل ويراه البعض سلفياً جهادياً ، والحقيقة أن تصريحه هذا دفعني إلى متابعته باهتمام لمعرفة التفاصيل التي تتبناها شخصية هذا الرجل .
بكل تأكيد ، أتفق معه في أن السلفية أشبه بحزب سياسي ، ولكنني أختلف معه كثيراً حين أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير ، إذ لا أزال مقتنعاً بالرأي الذي كونته بعد دراسة القواسم المشتركة والنصوص القرآنية بتجرُّد ، وهو أن السُّنة والشيعة أيضاً أقرب ما تكونان إلى مدارس سياسية ، وهذا طبعاً إذا ما أردنا وضعهما في إطارٍ أكبر من الأحزاب ، فالانشقاقات المتتالية هي التي أفرزت الجعفرية ، والعلوية ، والصوفية ، والأشعرية ، والزيدية ، ووو .. الخ من المذاهب والطرق .
دون إطالة ، وحتى لا يكون الحديث عقيماً ، فإنه من الصعب جداً اليوم الغوص في هذه النقاشات التي لن تفضي إلى نتيجة لأن هذه الأحزاب والمدارس أصبحت واقعاً منذ قرون ، وعلينا التعامل معه حتى وإن كانت عقائدنا الدينية الشخصية مختلفة عن هذه الأديان والمذاهب .
بشكل عام ، وعند النظر بموضوعية إلى مختلف المكونات القومية والدينية في سوريا ، نجد أن الكُرد هم الأكثر تنظيماً سياسياً والأكثر وعياً سياسياً – حتى وإن لم يكن ذلك بالدرجة الكافية – وذلك نتيجة للظلم الذي تعرضوا له بشكل خاص على مدى عقود ، مما دفعهم للاهتمام بالشأن السياسي والانخراط فيه مبكراً .
وربما يسبقهم في هذا المجال المسيحيون ، الذين يُمكن أن نعدَّهم الأكثر توازناً سياسياً في سوريا إلى حدٍّ ما ، ويليهم من حيث درجات الوعي السياسي الدروز الذين يميلون بطبيعتهم للابتعاد عن العمل السياسي إلا عند الضرورة .
أما الأقل وعياً سياسياً وممارسةً للعمل السياسي فهم السُّنة والعلويون ، وذلك بسبب ضعف التبعية لمراجعهم الدينية وشيوخهم ، ولا أدلَّ على ذلك من انتشار أبناء هذين المكونين في المؤسسات العلمانية ، والمنظمات الليبرالية ، وحتى بعض التجمعات الإلحادية ، فضلاً عن تشتتهم بين مختلف الأحزاب ، بحيث تكاد تستحيل عملية تجميعهم ضمن إطار سياسي واحد ، وقد تجد في العائلة الواحدة من ينتمي للبعث ، أو الشيوعيين ، أو الناصريين ، أو الإخوان المسلمين ، وغيرهم .
قبل أشهر بدأت الحملات التي تدعو إلى تجريم العلويين ، وتبرير المجازر التي ارتُكبت بحقهم ، بل والشماتة بهم ، وصولًا إلى إطلاق دعوات لحرقهم وغير ذلك من الدعوات التحريضية ، ثم ازدادت وتيرة هذه الحملات مع المجازر التي استهدفت الدروز ، أما الكُرد فهم يتعرضون منذ عقود طويلة لحملات تخوين ممنهجة .
ورغم ذلك ، فإنَّ السواد الأعظم من السُّنة رفضوا واستنكروا هذه الجرائم ، ودافعوا حين استطاعوا عن إخوتهم باليد واللسان والقلب ، وتحمَّلوا ما تحمَّلوا طيلة تلك الشهور ، بل إنَّ بعضهم دفع حياته ثمناً لموقفه الشريف في رفض هذه المجازر والخطابات .
من المجحف بحق السوريين القول إن الملايين من أبناء مختلف المكونات القومية والدينية هم مجرد “قطعان جاهلة” يتم توجيهها كيفما شاء الخطاب السياسي أو الإعلامي ، لكن الحقيقة المُرَّة التي لا يمكن إنكارها هي أن الملايين – ولا سيما من فئة الشباب – لم يحظوا بفرصة تعليم جيدة – ولا أعني التعليم الجامعي فقط – بل حتى فرصة التعلُّم الذاتي ، والقراءة ، والتثقيف ، وذلك بسبب ظروف الحياة الصعبة التي عاشوها طيلة خمسة عشر عاماً ، ولا يزالون يعانون منها حتى اليوم ، ويضاف إلى ذلك مئات الآلاف من الأطفال والمراهقين الذين يعانون من الأميَّة ، وهو ما يفسر الانقياد الأعمى ، حين لا تتشرب العقول إلا فكراً واحداً ، ولا يُسقى وعيُها إلا من جهة واحدة ، وللأسف بتطرُّفٍ طيلة حياتهم .
المختلف عن السُّنة ، والذي يعتبر نفسه “أقلية” ، ثم يدعو لشيطنتهم أو يقبل بذلك مع كل حدث في المنطقة – وليس في سوريا فقط – هو متعصِّب ، وجاهل ، ومتطرِّف ، ولا يريد الخير حتى لدائرته الضيقة ، وطائفته ، ومدينته ، فضلاً عن سوريا بأسرها .
العلويون لا يمثلون النظام السابق ، كما أن السُّنة لا يجوز وصمهم بالتهم أو شيطنتهم مع كل فعل يرتكبه مسلَّح أو فصيل ، أو حتى مع قرار تتخذه أو خطأ تقترفه دمشق اليوم .
أكثر ما يُنظر إليه بإيجابية حين نُقيِّم أداء دمشق هو قدرتها – إلى حدٍّ ما – على ضبط بعض الفصائل التي تثير القلاقل ، وسعيها إلى تكريس مفهوم الدولة ، وإغلاق الطرق والمنافذ أمام الساعين إلى “جهادٍ مزعوم” ضد الكرد أو الدروز أو العلويين أو غيرهم .
الزاد البشري الكبير للسُّنة في سوريا والمنطقة ، مقروناً بضآلة الوعي السياسي لدى معظم عوامهم ، يُفسِّر لنا بسهولة ردَّ الصوت الطائفي بأصوات مضاعفة من الجهة المقابلة .
ورغم فظاعة ما عشناه من انتهاكات ومجازر وتهجير في الساحل والسويداء ، وكل ما رافقها من بشاعات ، إلا أن ما حدث لا يمكن تصنيفه كحرب أهلية وفق التعاريف الأكاديمية .
لقد حُورب السُّنة ، وشُيطنوا بشكل ممنهج ومدروس تحت شعار “نقد السلطة ومعارضتها” ، وليهنأ من فعل ذلك ، لأن ما ينتظرنا هو حرب أهلية حقيقية سيذوق فيها السوريون من الويلات ما لم يذوقوه طيلة خمسة عشر عاماً من المجازر والتطهير العرقي ، وعندها سيستمتع مثقفو “النص ردن” ببودكاست طويل لبشار الأسد وهو يُحدثنا عن “السِّلم الأهلي” و”العيش المشترك” .
سنوات طويلة من الألم عشناها ، ولا تزال جراح الدم السوري نازفة ، ولا تفارق ذاكرتنا كلما تذكرنا آلاف المفقودين والمعتقلين من أهلنا من السُّنة ممن لم يُعرف مصيرهم حتى بعد سقوط النظام ، وما إن سقط النظام السابق حتى تجددت الجراح بجراح أهلنا العلويين في جرائم يندى لها جبين الإنسانية ، وها هي منذ شهرين فقط جراح أهلنا الدروز في السويداء ، وما جرى هناك من مجازر ، تُعيد إلى أذهاننا مشاهد القهر التي نعيشها يوماً بعد يوم .
رغم ذلك ما زلنا نواجه هذه المحن بالدعوات الوطنية الصادقة متجاوزين كل الأصوات التحريضية ، ورفضنا ولا نزال الانجرار نحو الحرب الأهلية ، لكن مع الأسف لم تتوقف محاولات الدفع بهذا الاتجاه ، ورغم فشلها حتى الآن في إشعال الحرب الفعلية ، فإنها نجحت في إحداث شرخ في الصف الوطني ، وخلق بلبلة وانقسام وقلق عام .
الخطوة التالية كما يبدو هي شيطنة السُّنة لأنهم – ببساطة – الفئة الوحيدة القادرة على إشعال الحرب الأهلية ، فالانتشار الجغرافي الواسع للسُّنة ، وكثافتهم السكانية ، واستغلال المظلومية التي وقعت عليهم ، والفاتورة الضخمة التي دفعوها من أرواحهم وأموالهم ، إضافة إلى غياب المرجعية السياسية الموحدة ، وتشتت القيادات ، والفقر المتزايد في أوساطهم ، وانخفاض مستوى الوعي السياسي ، كلها أسباب حقيقية ومنطقية تجعل من السُّنة بوابة محتملة للحرب الأهلية .
لقد حُصدت ملايين الأرواح في حروب عبثية باسم البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس قبل أن تتشكل جمهوريات القانون والدولة المدنية .
فهل نتعلم نحن في سوريا من التاريخ ، أم لا بد من حرب أهلية حتى نقبل بالمنطق والحوار والوطنية؟
شرائح واسعة من “المتعلمين” – أو من ظننا أنهم كذلك في وقت ما – من جميع المكونات انزلقت إلى خطاب فج ، وتحريض علني ، وشتائم .
فهل غاب عن هؤلاء الجهلة أن الكراهية لا تُولِّد إلا كراهية ، وأن التطرف لا يُولِّد إلا تطرفاً مضاداً ، وأن الدعوة للعنف لا تنتج إلا المزيد من العنف؟
لقد بدأت تتشكل تحالفات وأجسام مشبوهة ومجالس وندوات ومؤتمرات ظاهرها وطني ، وباطنها تهميش السُّنة ، ثم تتدرَّج خطابات “مثقفيها” ونخبها لتصل جهراً أو تلميحاً إلى شيطنة السُّنة عبر قوة ناعمة ، أو بخطاب مباشر .
أختلف في كثير من المواقف والآراء مع السياسي اللبناني وئام وهاب ، غير أن ذلك لا يعني أبداً أن كثيراً من تصريحاته تتسم بمنطق الواقعية السياسية ، ومن ذلك عبارته المشهورة بتصرُّف : “السُّنة هي الأُمَّة ، ونحن معها” ، وهذا يعني أن المنطق السياسي يقتضي العمل والمشاركة مع السُّنة في بناء دولة مؤسسات تكفل حقوق الجميع ، وتضمن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة وفق أسس ديمقراطية ، لا تخوين السُّنة وشيطنتهم والدعوة إلى محاربتهم كما تفعل ذلك بعض الأصوات التي تعتبر ذلك شفافية ومصداقية في موقفها المعارض لدمشق !
“أقزام الليبرالية الجدد” يظنون الليبرالية تعني محاربة السُّنة ، وجهلة العلمانية يعتقدون أنها تعني فصل السُّنة عن المجتمع ، وليس فصل الدين عن الدولة ، و”ملحدون” أغبياء تركوا ديانات الأرض قاطبة ، ولم تجد مراكزهم “التنويرية” ما تحاربه سوى السُّنة ، وكأنها الدين الوحيد في هذا العالم .
هذه الخطابات القذرة من نخب ساقطة فكرياً وأخلاقياً لا تصدر إلا عن نفوس مريضة ، ولا تكترث لحال سوريا ولا لمستقبل السوريين .
نخب مأجورة تحارب الوسطية والاعتدال ، وتسعى من خلال تحريضها على السُّنة إلى استفزاز سوادهم الأعظم ، والذي بدأ مع الأسف ينجرف هو الآخر شيئاً فشيئاً نحو مستنقعات الحرب الأهلية .
إن تغييب الأحزاب والشخصيات الوطنية ، والأصوات العاقلة لا يؤدي إلا إلى رفع صوت المتطرفين ، وإيصال خطاباتهم المريضة إلى واجهة المشهد السوري .
فهل نمنع كسوريين هذه الفتنة؟ وهل نُسكت هذه الأصوات؟
وهل تشاركنا دمشق – بصفتها السلطة القائمة – هذا الجهد؟
وهل تسعى – قبل فوات الأوان – إلى لجم هذه الخطابات بالأفعال ، وتجنيب البلاد ويلات الحرب الأهلية الفعلية بعد أن دخلنا فعليَّاً في أجواء “حرب أهلية باردة”؟
وهل تبادر بالدعوة إلى مؤتمر حوار وطني حقيقي ، وإلى تفعيل المشاركة السياسية للنخب الوطنية الحقيقية – أحزاباً وأفراداً – بمعزل عن المشاريع المشبوهة ، والحسابات الضيقة ؟!
