الإعلام الرقمي في معركة الوعي والمسؤولية
لم يعد الشاب العربي اليوم متلقيا سلبيا كما كان في العقود السابقة، فقد نقلت الثورة الرقمية جيلا بأكمله من موقع المشاهدة إلى موقع الفعل ومن استهلاك الخبر إلى صناعته و مساءلته.
وبين هذا وذاك، ولد نوع جديد من الوعي السياسي لا تحدده البيانات الرسمية ولا بيانات الأحزاب بل تصنعه خوارزميات ومنصات وصور قصيرة تشعل الجدل وتعيد تشكيل الموقف العام.
من “الربيع العربي” إلى “العصر الرقمي”
منذ عام 2011 تحولت المنطقة العربية إلى مختبر واسع للتفاعل بين السياسة والإعلام الرقمي.
لقد كان “الربيع العربي” أول ثورة تُنقل لحظة بلحظة عبر الهواتف المحمولة حيث ولدت السياسة في الفضاء الافتراضي قبل أن تنزل إلى الشارع. فالتدوينات والوسوم مثل #ميدان_التحرير و #سوريا_تنتفض و #تونس_الحرية لم تكن مجرد شعارات، بل كانت شبكات حية تبني سردية بديلة وتخلق وعيا جمعيا جديداً.
ومع مرور الوقت تغير شكل هذا الوعي، تحول الشباب من رواة للحدث إلى محللين له ومن ناشطين ميدانيين إلى صناع محتوى سياسي يناقش ويحلل ويقترح، لكن بالتوازي مع هذا الصعود ظهرت أزمة أخرى: كيف يمكن تحويل الزخم الرقمي إلى مشاركة حقيقية؟ وكيف نحمي هذا الوعي الجديد من الانقسام والمعلومات المضللة؟
الإعلام العربي بين الثورة والإصلاح
ففي تونس ومصر والسودان رأينا كيف لعبت المنصات الرقمية دوراً محورياً في التعبئة الشعبية لكنها في الوقت نفسه ساهمت في تعميق الاستقطاب حين غابت المعايير المهنية وتراجعت الثقة في المصادر.
وفي كل هذه الحالات كان الشباب في القلب من التحول إلى فهم الذين صنعوا الخطاب ولكنهم أيضا من دفعوا ثمن غياب الوعي النقدي، فقد تحول بعض الإعلام الرقمي العربي إلى ساحة مفتوحة للتجييش بدلاً من أن يكون منبراً للتنوير، وباتت الحاجة ملحة إلى إعلام جديد يجمع بين حرية التعبير والمصداقية بين سرعة المنصة وعمق التحليل وبين التفاعل اللحظي والفهم الاستراتيجي.
الجزيرة الرقمية: نموذج عربي متطور
تقدم شبكة الجزيرة الرقمية نموذجاً بارزاً لما يمكن أن يقدمه الإعلام العربي في عصر المنصات من خلال منصاتها مثل AJ+ والجزيرة نت والجزيرة مباشر استطاعت أن تخاطب الشباب بلغتهم المرئية و المختصرة دون أن تتخلى عن المهنية والتحقق.
فعلى سبيل المثال تغطيات AJ+ عربي لقضايا فلسطين أو الانقلابات في السودان أو أزمات اللجوء السوري لا تكتفي بنقل الحدث بل تحلل سياقه وتفتح الباب أمام نقاش تفاعلي يشارك فيه الجمهور كمحاور لا كمشاهد.
هذا النمط من الإعلام لا ينتج فقط محتوى بل ينتج مواطنة رقمية واعية حيث يصبح المتلقي شريكاً في تشكيل المعنى لا مجرد ناقل له.
الثورة السورية: الإعلام بين التحرر والتشظي
تجربة الثورة السورية تمثل أوضح مثال على التناقض بين حرية التعبير والانقسام الإعلامي.
ففي مرحلة ما قبل التحرير لعبت وسائل التواصل دورا حاسماً في كسر الصمت الذي فرضه “اعلام نظام الاسد” لعقود، فقد وثق الناشطون المظاهرات الأولى في درعا وحمص و دمشق وحلب عبر مقاطع مصورة كانت تصل إلى ملايين المشاهدين حول العالم خلال ساعات.
في تلك اللحظة لم يكن الإعلام مجرد وسيلة بل أداة تحرر وولادة لوعي جديد لدى السوريين والعرب معا يقوم على أن المواطن قادر على رواية قصته دون وسطاء.
لكن مع توسع رقعة الحرب ودخول المناطق “المحررة” واجه الإعلام السوري المستقل تحديات جديدة: الانقسام بين الفصائل وضعف الموارد وضغط القوى المتصارعة.
نشأت منصات محلية في إدلب و وريف حلب حاولت الحفاظ على صوت مهني يعبر عن الناس لكنها اصطدمت بواقع الحرب والانقسام السياسي، وفي الوقت نفسه استمر “إعلام النظام ” في خطاب مكرر يصف كل حراك شعبي بـ”المؤامرة” فاقداً بذلك قدرته على التأثير بعدما بات الجمهور يمتلك أدواته الخاصة للوصول إلى الحقيقة.
ومع مرور السنوات أصبحت معركة الوعي السوري لا تقل أهمية عن المعركة الميدانية، فبعد التحرير الجزئي لبعض المناطق لم تعد القضية فقط في “من يملك الأرض” بل في “من يملك الرواية”، الرواية التي تصوغ الذاكرة وتحدد شكل المستقبل
الإعلام السوري بعد الثورة: الطريق إلى المهنية
اليوم مع اقتراب ذكرى التحرير الاولى من “النظام الأسدي” يقف الإعلام السوري أمام تحدي جوهري: كيف يمكنه استعادة الثقة والمصداقية؟
لقد آن الأوان لتجاوز الثنائية بين “إعلام السلطة” و”إعلام المعارضة” نحو إعلام وطني حر يستند إلى المهنية والمعرفة لا إلى الولاء السياسي.
فهناك جيل من الصحفيين السوريين الشباب (داخل البلاد وخارجها) بدؤوا بالفعل في بناء مؤسسات إعلامية مستقلة تعتمد على التحقق من الأخبار وتقدم القصص الإنسانية بعيداً عن الشعارات.
هذا التحول وإن كان بطيئا يشكل بذرة الوعي الجديد الذي يمكن أن يعيد للإعلام دوره كجسر بين الناس لا كسلاح في الصراع السياسي والأزمات
من الانفعال إلى الوعي
الدرس الأعمق الذي يمكن استخلاصه من التجارب العربية هو أن الحرية الإعلامية لا تكفي وحدها لبناء وعي سياسي.
فالوعي لا يتكون من التفاعل والجدل فحسب بل من الفهم النقدي والتحقق من المصادر والقدرة على ربط المعلومة بالسياق.
ولهذا فإن مستقبل الإعلام العربي مرهون بقدرته على بناء ثقافة جديدة، ثقافة تشجع على السؤال لا على الانفعال وعلى المشاركة الواعية لا على التجييش الجماعي.
لقد غير الإعلام الرقمي وجه السياسة في العالم العربي وفتح الباب أمام جيل جديد من الفاعلين والمفكرين، لكن هذا الجيل يحتاج اليوم إلى ما هو أعمق من المنصات و التغريدات، يحتاج إلى إعلام يعيد الثقة بالمعرفة ويحول الحرية من شعار إلى ممارسة مسؤولة.
الثورة السورية بما حملته من آلام كانت تذكيرا قاسياً بأن معركة الوعي لا تنتهي بتحرير الأرض بل تبدأ بتحرير الفكرة.
لقد علمتنا الثورة أن الحرية لا تقاس بعدد المنصات بل بقدرة الكلمة على بناء الوعي لا هدمه وأن استقلال الإعلام هو الشرط الأول لنهضة وطن أنهكته الحرب.
وما لم يتحرر الإعلام من الاستقطاب والتبعية فلن تكتمل معركة الوعي التي بدأت منذ أول صرخة حرية، لكن الأمل اليوم أكبر من الخوف لأن جيلا جديداً من الصحفيين السوريين يكتب بعد التحرير فصلا جديداً في إعلام يواجه الظلام بالمعرفة والانقسام بالحقيقة والضياع بالأمل.

